في النصف الأول من القرن العشرين، وإبّان الحرب العالمية الثانية التي خلفت رقمًا ضخمًا من الأرامل والأيتام والعاجزين؛ ظَهَرت ممارسات تطوّعية دافعها الإحسان؛ للمساعدة والتخفيف من وطأة الفقر المدقع الواقعة على تلك الفئات، ثم ظَهَرت بعد ذلك ممارسات اكثر تنظيمًا ومهنيّة، وأخذت صِبغة علمية ومنهجية، يعود الفضل في هذا التحسين لكتابات ماري رتشموند في كتابها (التشخيص الاجتماعي) المنشور في بريطانيا عام 1917م والتي كانت بداية حقيقة لظهور مؤسسات اجتماعية في أوروبا تُقدِّم خدمات مهنية، إضافة إلى بروز علمٍ مستقلٍ له فلسفة خاصة يؤمن بقيمة الفرد وكرامته بغض النظر عن جنسه ودينة، إنما تنظر إلى العدالة الاجتماعية كمبدأ راسخ في تعاملها مع جميع مكوّنات المجتمع.
لم تكن البداية في المجتمع السعودي مختلفة كثيرًا عمّا دار في المشهد الأوروبيّ، حيث أسهمت الأزمات والحروب في إحداث فرقٍ في مجريات الأحداث؛ ففي الثلاثينات -إبان الحرب اليمنية السعودية ونشوب المعارك في جبال عسير وسواحل تهامة- برزت الحاجة الإنسانية لمساعدة المصابين والجرحى، ونشأت أول جمعية في مكة المكرمة للمساهمة في مساعدة المصابين والجرحى، فتطوّع الأطباء، وقُدِّمت الأدوية والضمادات وغيرها، فكانت البذرة الأولى للعمل الإنساني المؤسسي في المملكة العربية السعودية، وتلاها في الستينات زيادة عدد الجمعيات الخيرية لحاجة المجتمع آنذاك لدعم الفئات الأقل حظًا في المجتمع، وتوسّعت بشكل أكبر في السبعينات نتيجة الرخاء الذي عاشه المجتمع بعد اكتشاف النفط؛ لتتشكل شبكة أمان اجتماعي لحماية هذه الفئات.
وأخذ العمل الخيري/ الأهلي اليوم في توسعٍ كبير مُنظم من خلال الدخول في مجالات حيوية ومتنوعة تُسهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتوجه الاهتمام وتركّز تجاه تحقيق أثر اجتماعي مُستدام، حيث برزت أهداف إستراتيجية لتعزيز الأثر الاجتماعي في رؤية المملكة 2030م والتي تهدف أن تكون البرامج والمشروعات الاجتماعية ذات أثر اجتماعي ومتوائم مع أهداف التنمية الوطنية؛ حيث يعد إحداث الأثر الاجتماعي في حياة الأفراد والمجتمعات أحد أهم التوجهات المحلية والعالمية في العمل الاجتماعي اليوم، فالنوايا الحَسَنة والأموال الهائلة غير كافية لمعالجة المشكلات الاجتماعية وتحسين حياة الأفراد والمجتمعات وتمكينهم!
في أوائل التسعينات من القرن الماضي تصاعدت في أوروبا الأصوات التي تطالب بتمكين وإبراز الخطاب الذي يطالب بالمسائلة والشفافية على أعمال منظمات القطاع غير الربحي، كما تسائل المتبرعون والمانحون عن مصير أموالهم وكيف يتم إنفاقها على المحتاجين، وتطوَّرَ بعدها الخطاب للنظر إلى ما هو أبعد من ذلك؛ في محاولةٍ لمعرفة التأثير الذي تُحدثهُ هذه الأموال في معالجة مشكلات الفقر في المجتمع، وأيّ المجالات تُحدث فرقًا أكبر حين يُنفق عليها، كما أخذت مسألة التركيز على المسائلة والشفافية اهتمامًا أكبر في المجتمع السعودي، خاصة في مرحلة مأسسة القطاع غير الربحي وحوكمته، ولم يُطرح سؤال إحداث الأثر الاجتماعي إلا مع إطلاق رؤية المملكة 2030م وذلك في عام 2016م، ولازالت الممارسات في إحداث الأثر وتعظيمه وقياسه تسير بخطًى بطيئة.
يتساءل بعض المتخصصين والمهتمين حول جدوى وأهمية أن تكون كل الخدمات والبرامج الاجتماعية ذات أثر؟ والجواب بكل بساطة هو: لا! لأنَّ بعضها يكون استجابة طارئة لوضع عاجل، أو خدمات رعوية محضة يحتاجها المستفيد، وهذا لا يعني أنها غير كافية أو غير مهمة، بل على العكس من ذلك؛ فهي هي خدمات أساسية يتطلبها المستفيد في وضع اجتماعي واقتصادي معين، فالمشكلات الإنسانية أكثر تعقيدًا مما نتصور، وتتداخل فيها جوانب متعددة يصعب الفصل بينها، والإنسان في فترة الأزمة أو المشكلة ينظر إليها من زاوية معينة حسب مكانه وظرفه، حتى يظهر له الاحتياج فيها مُلحًا ويطلب المساعدة والتدخل العاجل بشأنها أو خلاف ذلك! إذن، فتقديم الخدمات الرعوية يُساعد في فترة معينة على استدراك الموقف وتلبية حاجة ضرورية للرجوع إلى الوضع الطبيعي الذي يسمح للفرد بممارسة حياته. إلا أنَّ الاعتماد على تقديم الخدمات الرعوية المباشرة في الممارسة الاجتماعية دون النظر إلى ما وراء ذلك قد ينتج عنه آثارًا سلبية عميقة، منها اعتماد المستفيد الكليّ على المساعدات من المؤسسات والمنظمات غير الربحية، والتي قد تُسهم في بروز ثقافة الاتكالية، وتُعزز -من غير وعي- استمرار الفرد في محيط الفئات الأقل حظًا في المجتمع، وحاجته الدائمة إلى منظومة الحماية الاجتماعية.
إنَّ إحداث أثر اجتماعي مُستدام في البرامج والمشروعات التنموية يسهم في مواجهة القضايا والمشكلات الاجتماعية وإحداث تغيير بعيد المدى في المجتمعات لمواجهة التحديات العالمية التي تزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، وقد أكدت مجموعة دول العشرين في 2013م على ضرورة التوجه نحو إحداث أثر اجتماعي؛ لعدم قدرة الأساليب التقليدية على مواجهة التحديات الاجتماعية العالمية والمعقدة. حيث كان العمل المجتمعي لفترة طويلة يرتكز على النتائج قصيرة المدى والمخرجات، مثل عدد البرامج المُنفذة، وعدد المستفيدين، دون التخطيط لما هو أبعد من ذلك من الآثار بعيدة المدى كتغيّرات على مستوى القضايا المجتمعية كالبطالة والاستقرار الأسْري وغيرها.
إنَّ العمل على التخطيط للأثر الاجتماعي وإدارته وقياسه ومتابعته له الدور الأكبر في فاعلية البرامج والمشروعات التنموية وتحقيق تغيرات مجتمعية على المدى المتوسط والبعيد، والتعامل مع مسببات المشكلات وجذورها بدلًا من التعامل مع أعراضها وعواقبها، وبالتالي كفاءة الإنفاق المجتمعي وتخفيف الضغط على الخدمات الحكومية ذات العلاقة.
وفي الآونة الأخيرة أصبح هناك حِراكٌ مهني ومعرفي بشكل ملحوظ حول أهمية العمل على إحداث الأثر المجتمعي وتعظيمه وقياسه على مستوى الممارسة في منظمات القطاع غير الربحي بمبادرات ومشروعات وإستراتيجيات تستهدف تحقيق أثر اجتماعي مستدام، وعلى المستوى المعرفي من خلال المؤتمرات والملتقيات المهنية والدراسات العلمية – رغم أنها لا زالت شحيحة- إلا أنها مؤشر على الوعي الذي فتح الآفاق للاهتمام المعرفي من الباحثين والأكاديميين والممارسين مما وفَّر لغة مشتركة تُعمِّق الفَهم بالأدوات والنماذج والممارسات الفُضلى في هذا المجال، كما أنَّ الحاجة في الوقت الحالي ماسّة لرصد الممارسات والتجارب بما فيها من خطوات خجولة ومبادرات جريئة، كما أن العراقيل والصعوبات والتحديات التي صاحبت البدايات أصبحت أقل.. كل هذه القصص مُلهمة للمنظمات الراغبة ولكن ليس لديها القدرة على خوض غمار التجربة والسير في اتجاهات جديدة، فلا يكفي التحدث عن النجاحات فقط إنما ما ورائها لتحقيق أثر مستدام وأعمق وأدوم.